النهضة في تونس- مسارات معقدة بين السياسة والقمع ومستقبل غامض

استحوذت حركة النهضة الإسلامية في تونس على اهتمام واسع النطاق، محليًا وإقليميًا ودوليًا، من خلال تجربتها الفكرية والسياسية المتميزة، والتي جذبت أنظار الفاعلين السياسيين والجهات البحثية، الذين وجدوا فيها مجالًا خصبًا للبحث المعمق في جملة من الأسئلة الملحة التي تفرض نفسها بقوة في تونس، وفي عموم الدول العربية، بل وحتى في العالم الإسلامي، وتتلخص هذه الأسئلة فيما يلي:
إلى أي مدى يمكن لحركة إسلامية أن تتطور وتتأقلم في هيكلها ورؤيتها، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والسياسي في بلدانها؟ وهل تعود العلاقات المتوترة، والتي غالبًا ما تكون دموية، بين هذه الحركات وأنظمة الحكم، إلى وجود عائق جوهري وبنيوي يؤدي إلى الصدام في كل مرة؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد حسابات وخيارات سياسية، يعود جزء منها إلى اعتبارات داخلية، بينما يرجع الجزء الآخر إلى بيئة إقليمية ودولية لا تتقبل فكرة الإسلام السياسي، ولا تتردد في مواجهته والقضاء عليه؟
"الحرية لنا ولغيرنا"
في منعطف تاريخي يعود إلى سنة 1982، عقدت حركة الاتجاه الإسلامي ندوة صحفية في تونس، عبرت خلالها عن رغبتها الأكيدة في العمل القانوني، مشددة بكل قوة على أن تبنيها للديمقراطية هو مبدأ راسخ لا جدال فيه، مؤكدة أنه لا يتعارض إطلاقًا مع تعاليم الإسلام السمحة.
وقد تجاوزت الحركة في طرحها ذاك كل التوقعات، مؤكدة التزامها الكامل بقوانين البلاد ونظامها الجمهوري، وأنها ستحتكم إلى أصوات الناخبين وإلى نتائج صناديق الاقتراع، حتى لو اختارت الأغلبية حزبًا شيوعيًا ليحكم تونس، مهد الزيتونة.
ورفع الإسلاميون آنذاك شعارًا مدويًا، سرعان ما انتشر وتردد صداه في أدبياتهم داخل الجامعات وخارجها، ألا وهو: "الحرية لنا ولغيرنا"، في رسالة واضحة بدت موجهة إلى النظام الحاكم، الذي كان يعيش وقتها مرحلة من الانفتاح الليبرالي المحدود، مدفوعًا اقتصاديًا ومتحفظًا سياسيًا، في ظل حكومة الراحل محمد المزالي.
وعلى الرغم من كل هذه التطمينات، قوبلت مبادرة حركة الاتجاه الإسلامي بفتور شديد من قبل النظام الحاكم، وكذلك من التيارات اليسارية والقومية، لتبدأ الحركة في مواجهة حملات أمنية ومواجهات فكرية وسياسية ضارية، اتهمتها بازدواجية الخطاب وبممارسة نوع من "التقية الديمقراطية" في محاولة لإخفاء خلفية إخوانية متشددة، كانت في ذلك الوقت معجبة بتجربة الثورة الإسلامية في إيران وبالنظام الذي أفرزته، والذي سرعان ما وجد نفسه في خضم حرب دامية مع محيطه الإقليمي والدولي.
في أعوام 1982 و1984 و1987 و1992 من القرن الماضي، كان مناضلو حركة الاتجاه الإسلامي يخرجون من محاكمة ليدخلوا في أخرى، ليجدوا أنفسهم في مواجهة تُهم التآمر على أمن الدولة، والتورط في بناء خلايا وتنفيذ أعمال إرهابية، وهم الذين آمنوا بالانخراط في النسيج التونسي اجتماعيًا وسياسيًا ونقابيًا.
الأمر الذي أضفى على تجربتهم، في مختلف مراحلها، هالة من الرهبة والغموض، وجعل من القضاء عليهم هدفًا رئيسيًا لأكثر الدوائر الرسمية والأمنية والأيديولوجية تشددًا في رفض ظاهرة "الإسلام السياسي".
على يسار الإخوان
بين مدح وتقويض، يظل التشخيص الموضوعي لظاهرة الاتجاه الإسلامي عمليةً معقدة ومليئة بالتحديات، خاصةً بالنظر إلى التعميم الذي قد يقع فيه أي باحث عند استخدام مصطلح أو تسمية لوصف ظاهرة اجتماعية سياسية.
وإذا كانت الأنظمة العربية – ومن يدور في فلكها من أجهزة أمنية وخصوم أيديولوجيين – تميل إلى وضع جميع الحركات الإسلامية في خانة الاتهام نفسها، فإن النظرة الموضوعية والمتأنية تذكرنا بأن الإسلاميين يمثلون طيفًا واسعًا، تتخلل مكوناته علاقات معقدة تبدأ من الاختلاف ولا تنتهي عند التناقض، بل وحتى التناحر في بعض الأحيان.
ومن هنا، لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة تجربة الحركة الإسلامية في تونس بغيرها من التجارب، فقد قدم الإسلاميون في تونس أنفسهم على أنهم جزء لا يتجزأ من الدولة الوطنية وأهدافها المعلنة في التنمية والتحديث، مبتعدين بذلك عن النسخ الإسلامية الأخرى الأكثر محافظة و"سلفية".
ولكي لا تبقى تلك المسافة مجرد ادعاء نظري، وعلى الرغم من "المحن الأمنية" التي عاشها إسلاميو تونس، والتي أدت إلى سجن ونفي العديد من قادتهم، فقد تضمنت بياناتهم وخطاباتهم تأكيدًا دائمًا على التمسك بالدولة الوطنية.
كما قام الشيخ راشد الغنوشي، الزعيم التاريخي للحركة، بتقديم تنظير معمق لإشكالية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وهو ما ضمنه كتابه الشهير: "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، حيث أكد أن زواجًا ناجحًا بين الإسلام والديمقراطية ممكن، وأن ثمرته يمكن أن تكون دولة متجذرة في هويتها، ومنفتحة في الوقت نفسه على المكاسب الحضارية للإنسانية، ومتفاعلة مع الحقائق الإقليمية والدولية للجمهورية التونسية، بشكل يقطع مع الاستبداد مهما كانت الخلفية التي يتستر بها، حتى لو كانت تلك الخلفية دينية.
بهذا الفهم، تقاربت أفكار الغنوشي مع ما كان يطرحه الزعيم الإسلامي السوداني الراحل حسن الترابي، وهي الأفكار التي اعتبرها البعض من قبل "الأرثوذكسية المشيخية الإخوانية" مجرد "شطحات" فكرية يتم تداولها بهدف إرضاء الموضة الفكرية والسياسية السائدة في عالم اليوم.
وعلى عكس البيئة العربية، تلقت منابر سياسية وأكاديمية غربية أفكار الشيخ راشد الغنوشي بترحيب واضح، معتبرة أنها تقع على يسار الإخوان، وتعكس مراجعات عميقة يمكن البناء عليها لنزع فتيل الخلافات والمواجهات بين الإسلاميين والغرب، وكذلك الحكومات المحلية عربيًا وإسلاميًا.
ومع ذلك، كان يجب انتظار الربيع العربي الذي انطلق من تونس، حتى يدخل الإسلاميون في تونس مرحلة غير مسبوقة من تجربتهم، تمثلت في هروب الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي من البلاد، ودخول تونس في مرحلة من الإصلاحات السياسية الواسعة والهشة، والتي منحت الإسلاميين – ولأول مرة في تاريخ تونس السياسي الحديث – فرصة العمل القانوني، ليحققوا نتائج متقدمة في الانتخابات، ويصبحوا جزءًا من منظومة الحكم في سياق واقع اقتصادي وأمني صعب.
محنة الحريّة..!!
في مشهد تاريخي مليء بالمفارقات والتناقضات، ذرف الشيخ راشد الغنوشي دموعًا غزيرة أثناء لقاء تلفزيوني، وهو يشاهد المحامي اليساري عبد الناصر العويني يرفع صوته – في قلب شارع الحبيب بورقيبة غير بعيد عن مقر وزارة الداخلية في العاصمة تونس – معلنًا بالكلمة التي تردد صداها في أرجاء البلاد والعالم العربي: "بن علي هرب.. بن علي هرب".
كانت تلك التطورات أكبر بكثير مما كانت تطمح إليه حركة الاتجاه الإسلامي، التي غيرت اسمها، على وقع وعود أخلفها بن علي بالانفتاح السياسي في بداية عهده، إلى حركة النهضة.
كان أقصى ما تطالب به الحركة الإسلامية في تونس هو تخفيف وطأة الاستبداد والكف عن "أَمْنَنة" الملف الإسلامي، وفتح الباب للمشاركة السياسية ولو بالحد الأدنى، في مقابل إصرار السلطة على منهج "التسوية الفردية" في التعامل مع الإسلاميين، وهو النهج الذي نجح في استقطاب بعض المناضلين، بمن فيهم بعض القيادات البارزة، الذين عادوا إلى الوطن مقابل عدم ملاحقتهم وتمكينهم من بعض حقوقهم المدنية.
وقد عاد موضوع تغيير التسمية ليطرح من جديد، من خلال تدوينة للأمين العام الجديد لحزب حركة النهضة، العجمي الوريمي، المعروف حركيًا باسم "الهيثم"، حيث أشار إلى أن الحزب يمضي في اتجاه مراجعات جذرية تشمل التسمية ومضامين الطرح والموقع السياسي وأسلوب العمل داخل الساحة السياسية، مؤكدًا أن هذه المراجعات موثقة في أوراق عمل ستطرح في نهاية المطاف على الساحة السياسية.
والملحوظ هو السياق المختلف الذي تطرح ضمنه النسخة الجديدة من المراجعات، إذ إنها تتم في ظل رئيس زكاه النهضويون، وكان لهم الدور الحاسم في وصوله إلى السلطة، وهو الرئيس الذي أدخل البلاد فيما بات يعرف بمسار: "الخامس والعشرين من يوليو"، معتمدًا المراسيم الرئاسية التي خوّلته إلغاء دستور 2014، وحل أهم الهيئات الدستورية، ومنح نفسه صلاحيات مطلقة في الحكم، وإصدار دستور جديد يراه منتقدوه تعبيرًا صارخًا عن نزعة استبدادية لم تشهد البلاد لها مثيلًا في تاريخها السياسي الحديث.
كما أن هذه المراجعات تأتي في وقت يقضي فيه الشيخ الغنوشي ما يقرب من عام في السجن بتهم متعددة، قادت إحداها إلى الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة تلقي النهضة أموالًا أجنبية.
هذا بالإضافة إلى الملف الأخطر، ألا وهو اتهام الحزب بالتورط في الإرهاب في إطار ما عُرف إعلاميًا وقضائيًا بملف "الجهاز السري لحركة النهضة"، ذي العلاقة المثيرة للجدل باغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد، والقومي محمد البراهمي.
ويحدث كل ذلك في وقت يمر فيه حزب حركة النهضة بوضعية غريبة وغير مسبوقة، حيث أغلقت السلطات مقراته، مما أثر سلبًا على عمله وأصاب أتباعه بنوع من الشلل التنظيمي، ولكن على الرغم من الاعتقالات التي طالت قيادات بارزة من الصف الأول، مثل الأمين العام بالنيابة منذر الونيسي، فقد ظل الحزب موجودًا ضمن مكونات جبهة الخلاص الوطني المعارضة للانقلاب، ويلعب دورًا محوريًا في رفدها بقاعدته الجماهيرية في كل مرة يسمح لها بتسيير مظاهرات احتجاجية، كما هو الحال في ذكرى قيام الثورة التونسية.
معركة الوقت
تتوالى الأحداث بشكل متسارع فيما يخص الإسلاميين في تونس، ففي ظل تزايد التساؤلات حول الانتخابات الرئاسية القادمة، وسط ما يبدو أنها حملة انتخابية مبكرة للرئيس سعيد، وتأطير قضائي مسبق لها يجعل أغلب الأسماء التي يُحتمل أن تنافسه في دائرة الملاحقات القضائية، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، تعود الورقة الإسلامية لتلوح في الأفق كخيار ذي مردود سياسي عالٍ، وكرِهَان حيوي لكل من يسعى إلى إيجاد موطئ قدم في المسار السياسي للبلاد.
ويقول النهضويون إن ما يصفونه بالمعسكر الاستئصالي يرى في القضاء على الحركة الإسلامية هدفًا أساسيًا لا يضاهيه أي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب مكاسب البلاد في الحرية وفصل السلطات وضمانات استقلاليتها والحريات الإعلامية.
ويؤكد النهضويون أن أطرافًا عدة تدفع بالبلاد نحو تقديم الإسلاميين كقربان لأجندات إقليمية ودولية، عارضت الثورة التونسية وعموم ثورات الربيع العربي، وصادرت مسار الانتقال الديمقراطي، وأعادت تونس إلى مربع "المعالجات الأمنية"، حيث يتم إحصاء الأنفاس على المعارضين وإقصائهم من خلال ملاحقات قضائية قاسية.
سردية يرد عليها خصومهم بالقول إن حزب حركة النهضة كان شريكًا في الفساد إن لم يكن متورطًا فيه بشكل كامل، وأن ما يصفونه بالعشرية "السوداء" وضعت إخوان تونس على محك ممارسة الحكم، لتكشف من وجهة نظرهم حقيقة علاقتهم بالديمقراطية وانتمائهم إلى الدولة الوطنية.
وفي ظل هذا الاستقطاب، بدت رسائل القيادة الحالية لحزب حركة النهضة كأنها سباق مع الزمن، في محاولة لتجنب المزيد من الصدام مع توجهات الرئيس قيس سعيد، وإعادة إنتاج شكل ومضمون التجربة، حتى تجد لنفسها موقعًا في مشهد تغير كثيرًا عما كان عليه قبل انتخابات 2019، وسط تساؤلات حول ما إذا كان هناك متسع من الوقت لإنجاز هذه المهمة المعقدة، والتي أدت في الماضي القريب إلى استقالات لقيادات تاريخية، انتقدت ما وصفته بهيمنة الشيخ راشد الغنوشي ودائرة ضيقة تحيط به على مقاليد الحزب.
الأمر الذي قلل من إمكانات التطوير والتجديد داخل الهياكل الحزبية وفي الخطاب الذي تتوجه به النهضة إلى جمهورها وعامة التونسيين، سواء كانوا مناصرين أم خصومًا لها.
وفي الإجابة على هذه التساؤلات، لا يمكن فصل القراءة السياسية عن موازين القوى التي لا تضع حركة النهضة في موقع قوي، فهي الآن رهن مسار سياسي لا يلوح في الأفق أي مصالحة فيه، ومسار قضائي تحكمه اعتبارات تصب في أغلبها في غير صالح الإسلاميين، مما جعل جهات كثيرة تتساءل عما إذا كانت ساعة سحب الاعتراف القانوني من حزب حركة النهضة قد اقتربت، مما يعني حل الحزب ورفع الغطاء السياسي عنه، وهو ما قد يؤدي إلى ملاحقة قياداته وأنصاره بتهم من قبيل الانتماء إلى جماعة "إرهابية محظورة"؟
ذاك ما تداولته أوساط إعلامية، وأسرّت به دوائر مهتمة بالحركة الإسلامية في تونس بين حين وآخر، وها هنا سيناريوهان وآخر ثالث:
مصر أم الجزائر؟
استبق الرئيس التونسي قيس سعيد القرارات التي اتخذها في 25 يوليو/تموز بزيارة مثيرة للجدل إلى مصر، حيث استقبلته القيادتان السياسية والعسكرية بحفاوة بالغة، ولم يتوقف الرئيس التونسي خلالها وبعدها عن الإشادة بتجربة مصر، معتبرًا إياها نموذجًا يُحتذى به في إنقاذ الدولة الوطنية من براثن "الفكر الهدام".
وقد رأى منتقدو الرئيس سعيد في هذه الزيارة إشارة واضحة إلى الخلفية السياسية التي يعتمد عليها الرئيس في تعامله مع مسار الانتقال الديمقراطي، ومع الأحزاب الفاعلة فيه، وعلى رأسها حركة النهضة، حيث فهم الجميع تقريبًا أن عبارة "الفكر الهدام" تشير إلى الإسلام السياسي، ممثلًا في حركة الإخوان، التي انتهى بها المطاف مطاردة بشراسة من قبل الدولة العميقة في مصر، في مواجهة دموية تجسدت في مجزرة رابعة وغيرها.
وقد مثلت التجربة المصرية هاجسًا لدى الكثيرين، خاصة وأن أصواتًا رفضت نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات التي جرت خلال فترة الانتقال الديمقراطي، ودعت إلى الاقتداء بالتجربة المصرية في إغلاق ملفي الثورة والانتقال الديمقراطي بدعوى إنقاذ البلاد من براثن الإخوان.
وقد سعى حزب حركة النهضة في تونس إلى تجنب السيناريو المصري، مؤكدًا أنه ليس إخوانيًا، وإن كان قد ارتبط بتلك الخلفية الفكرية في بداياته، ومتوجهًا نحو تعريف جديد يُظهر تقاربًا مع أفكار قريبة من الإدارة الأميركية تحت عنوان: "مسلمون ديمقراطيون"، يصبح فيه الإسلاميون مواطنين ذوي نزعة محافظة يستلهمون من الثقافة العربية الإسلامية ما يساعد في بناء تجربة سياسية وتنموية تكرس التعددية والحداثة في مختلف مظاهرها.
إلا أن هذا التوجه قوبل بالرفض من قبل فرنسا والإمارات، المتمسكتين بمواجهتهما لـ "الإسلام السياسي"، في إشارة إلى الإخوان المسلمين، ورفض أي تجربة تستلهم ما شهدته تركيا في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، مهما كانت المبررات.
وإلى جانب النسخة المصرية، توجد نسخة أخرى جزائرية أشاد بها الرئيس قيس سعيد، حيث قامت الدولة بتأطير وجود الإسلاميين ودورهم بعد عشرية دامية، ليصبح الإسلاميون جزءًا من المشهد السياسي مع تأثير محدود يكتفون ضمنه بانتقاد الوضع العام دون القدرة على تهديد توازناته العميقة.
وبين النسختين تنافس خفي على الساحة التونسية، ويبدو أن حزب حركة النهضة يراقب إلى أي النسختين سيميل الرئيس قيس سعيد، وهو ما سيحدد مستقبل تونس في ظل سعي الرئيس إلى هندسة البلاد على نحو غير مسبوق، وفق مفاهيم تكاد تلغي دور الهيئات الوسيطة لصالح علاقة مباشرة بين القائد والشعب، وهو ما يصفه خصومه بالشعبوية، مؤكدين أن تونس ستدفع ثمنًا باهظًا لهذا التوجه.
وبين هذا السيناريو وذاك، يبرز احتمال ثالث غامض، يذكرنا بأن بن علي عندما هرب لم تسقط معه منظومة حاكمة تتقاطع فيها القوى الناعمة والصلبة، والتي استمرت في مراقبة تطورات تجربة الانتقال الديمقراطي، لتسهم بشكل أو بآخر في إلغائها في نهاية المطاف، بعد أن وجدت في الرئيس سعيد حليفًا تتوفر فيه صفات لم تتوفر في غيره، ألا وهي الشرعية الانتخابية والصورة السياسية النظيفة، والسعي إلى تجربة يضطلع فيها القائد بدور محوري.
ولا توجد صورة دقيقة عن قراءة هذه المنظومة العميقة لتحولات المشهد في البلاد، ولا عن الخيارات التي تتداولها بشأن المستقبل، بعد أن أكدت هيئة الانتخابات أن تونس ستشهد انتخابات رئاسية في عام 2024.
كما لا يعرف أحد على وجه الدقة الكيفية التي تنظر بها هذه المنظومة إلى المشهد السياسي في البلاد، والذي تشكل حركة النهضة جزءًا مهمًا فيه، هذا المشهد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بواقع اقتصادي شديد الصعوبة، لا يحتمل – وفقًا لتحذيرات صدرت داخل البلاد وخارجها – الزج بتونس مجددًا في مواجهة مع الإسلاميين، مما سيمنحهم مظلومية جديدة، ولن يقدم حلولًا حقيقية لأزمات البلاد المتفاقمة.
لا أحد مطمئن للمستقبل في ظل هذه الاحتمالات المكلفة بطريقة أو بأخرى، لا الشيخ راشد الغنوشي، الذي نقل عنه أحد محاميه أن معنوياته مرتفعة وأن ثقته عالية في استعادة تونس لعافيتها الديمقراطية والاقتصادية، ولا الرئيس قيس سعيد، الذي يؤكد أن البلاد دخلت مرحلة اللاعودة في معركتها ضد من يصفهم بالفاسدين، وسط حملات دعائية من أنصاره في العالم الافتراضي.
وبين هذا وذاك.. دولة عميقة اعتادت متابعة ما يحدث عن كثب.. تتوارى حينًا.. لتحسم الموقف أحيانًا في اتجاه قد يكون خلاف كل التوقعات.
